فصل: هَلْ يَثْبُتُ النَّسَبُ بِالْقَافَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.حُكْمُ الرَّدِّ عَلَى ذَوِي الْفَرَائِضِ:

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي رَدِّ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِ الْوَرَثَةِ عَلَى ذَوِي الْفَرَائِضِ إِذَا بَقِيَتْ مِنَ الْمَالِ فَضْلَةٌ لَمْ تَسْتَوْفِهَا الْفَرَائِضُ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يُعَصِّبُ، فَكَانَ زَيْدٌ لَا يَقُولُ بِالرَّدِّ وَيَجْعَلُ الْفَاضِلَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ جُلُّ الصَّحَابَةِ بِالرَّدِّ عَلَى ذَوِي الْفَرَائِضِ مَا عَدَا الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ وَإِنْ كَانُوا اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ فُقَهَاءُ الْعِرَاقِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ. وَأَجْمَعَ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّدَّ يَكُونُ لَهُمْ بِقَدْرِ سِهَامِهِمْ، فَمَنْ كَانَ لَهُ نِصْفٌ أَخَذَ النِّصْفَ مِمَّا بَقِيَ، وَهَكَذَا فِي جُزْءٍ جُزْءٍ. وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّ قَرَابَةَ الدِّينِ وَالنَّسَبِ أَوْلَى مِنْ قَرَابَةِ الدِّينِ فَقَطْ (أَيْ: أَنَّ هَؤُلَاءِ اجْتَمَعَ لَهُمْ سَبَبَانِ وَلِلْمُسْلِمِينَ سَبَبٌ وَاحِدٌ). وَهُنَاكَ مَسَائِلُ مَشْهُورَةُ الْخِلَافِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهَا تَعَلُّقٌ بِأَسْبَابِ الْمَوَارِيثِ يَجِبُ أَنْ نَذْكُرَهَا هُنَا. فَمِنْهَا، أَنَّهُ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}، وَلِمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ».

.هَلْ يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ أَوِ الْمُرْتَدَّ:

وَاخْتَلَفُوا فِي مِيرَاثِ الْمُسْلِمِ الْكَافِرَ، وَفِي مِيرَاثِ الْمُسْلِمِ الْمُرْتَدَّ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ بِهَذَا الْأَثَرِ الثَّابِتِ، وَذَهَبَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَمُعَاوِيَةُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَمَسْرُوقٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَجَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ الْكَافِرَ، وَشَبَّهُوا ذَلِكَ بِنِسَائِهِمْ، فَقَالُوا: كَمَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ نِسَاءَهُمْ وَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُنْكِحَهُمْ نِسَاءَنَا كَذَلِكَ الْإِرْثُ، وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا مُسْنَدًا، قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَشَبَّهُوهُ أَيْضًا بِالْقِصَاصِ فِي الدِّمَاءِ الَّتِي لَا تَتَكَافَأُ.
وَأَمَّا مَالُ الْمُرْتَدِّ إِذَا قُتِلَ أَوْ مَاتَ، فَقَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ هُوَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَرِثُهُ قَرَابَتُهُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَهُوَ قَوْلُ زَيْدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَجُمْهُورُ الْكُوفِيِّينَ وَكَثِيرٌ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ عُمُومُ الْحَدِيثِ، وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ، وَقِيَاسُهُمْ فِي ذَلِكَ هُوَ أَنَّ قَرَابَتَهُ أَوْلَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهُمْ يُدْلُونَ بِسَبَبَيْنِ: بِالْإِسْلَامِ وَالْقَرَابَةِ، وَالْمُسْلِمُونَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَرُبَّمَا أَكَّدُوا بِمَا يَبْقَى لِمَا لَهُ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ فِي الْحَالِ حَتَّى يَمُوتَ فَكَانَتْ حَيَاتُهُ مُعْتَبَرَةً فِي بَقَاءِ مَالِهِ عَلَى مِلْكِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ لِمَالِهِ حُرْمَةٌ إِسْلَامِيَّةٌ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَرَّ عَلَى الِارْتِدَادِ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: يُؤْخَذُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ إِذَا تَابَ مِنَ الرِّدَّةِ فِي أَيَّامِ الرِّدَّةِ، وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى تَقُولُ: يُوقَفُ مَالُهُ، لِأَنَّ لَهُ حُرْمَةً إِسْلَامِيَّةً، وَإِنَّمَا وُقِفَ رَجَاءَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ اسْتِيجَابَ الْمُسْلِمِينَ لِمَالِهِ لَيْسَ عَلَى طَرِيقِ الْإِرْثِ. وَشَذَّتْ طَائِفَةٌ فَقَالَتْ: مَالُهُ لِلْمُسْلِمِينَ عِنْدَمَا يَرْتَدُّ، وَأَظُنُّ أَنَّ أَشْهَبَ مِمَّنْ يَقُولُ بِذَلِكَ.

.تَوْرِيثُ الْمِلَلِ الْمُخْتَلِفَةِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا:

وَأَجْمَعُوا عَلَى تَوْرِيثِ أَهْلِ الْمِلَّةِ الْوَاحِدَةِ أحكام بَعْضَهُمْ بَعْضًا. وَاخْتَلَفُوا فِي تَوْرِيثِ الْمِلَلِ الْمُخْتَلِفَةِ أحكام، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ الْمُخْتَلِفَةِ لَا يَتَوَارَثُونَ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَدَاوُدُ وَغَيْرُهُمْ: الْكُفَّارُ كُلُّهُمْ يَتَوَارَثُونَ. وَكَانَ شُرَيْحٌ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَجَمَاعَةٌ يَجْعَلُونَ الْمِلَلَ الَّتِي لَا تَتَوَارَثُ ثَلَاثًا: النَّصَارَى وَالْيَهُودَ وَالصَّابِئِينَ مِلَّةً، وَالْمَجُوسَ وَمَنْ لَا كِتَابَ لَهُ مِلَّةً، وَالْإِسْلَامَ مِلَّةً. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ. وَعُمْدَةُ مَالِكٍ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ مَا رَوَى الثِّقَاتُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ». وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ»، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ هَذَا بِدَلِيلِ الْخِطَابِ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ يَرِثُ الْكَافِرَ. وَالْقَوْلُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ فِيهِ ضَعْفٌ وَخَاصَّةً هُنَا.

.تَوْرِيثُ الْحُمَلَاءِ:

وَاخْتَلَفُوا فِي تَوْرِيثِ الْحُمَلَاءِ كيفية، وَالْحُمَلَاءُ تعريف هُمُ الَّذِينَ يَتَحَمَّلُونَ بِأَوْلَادِهِمْ مِنْ بِلَادِ الشِّرْكِ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، (أَعْنِي: أَنَّهُمْ يُولَدُونَ فِي بِلَادِ الشِّرْكِ ثُمَّ يَخْرُجُونَ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَهُمْ يَدَّعُونَ تِلْكَ الْوِلَادَةَ الْمُوجِبَةَ لِلنَّسَبِ)، وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
قَوْلِ: إِنَّهُمْ يَتَوَارَثُونَ بِمَا يَدَّعُونَ مِنَ النَّسَبِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْحَاقُ.
وَقَوْلِ: إِنَّهُمْ لَا يَتَوَارَثُونَ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَى أَنْسَابِهِمْ، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَالْحَسَنُ وَجَمَاعَةٌ.
وَقَوْلِ: إِنَّهُمْ لَا يَتَوَارَثُونَ أَصْلًا. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ الثَّلَاثَةُ الْأَقْوَالِ، إِلَّا أَنَّ الْأَشْهُرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يُوَرِّثُ إِلَّا مَنْ وُلِدَ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَأَمَّا مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ فَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنْ لَا يُوَرَّثُوا إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنْ لَا يُوَرَّثُوا أَصْلًا وَلَا بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي أَهْلِ حِصْنٍ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ، فَشَهِدَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَنَّهُمْ يَتَوَارَثُونَ، وَهَذَا يَتَخَرَّجُ مِنْهُ أَنَّهُمْ يَتَوَارَثُونَ بِلَا بَيِّنَةٍ، لِأَنَّ مَالِكًا لَا يُجَوِّزُ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، قَالَ: فَأَمَّا إِنْ سُبُوا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ وَبِنَحْوِ هَذَا التَّفْصِيلِ قَالَ الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ خَرَجُوا إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ يَدٌ قُبِلَتْ دَعْوَاهُمْ فِي أَنْسَابِهِمْ، وَأَمَّا إِنْ أَدْرَكَهُمُ السَّبْيُ وَالرِّقُّ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ. فَفِي الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: اثْنَانِ طَرَفَانِ، وَاثْنَانِ مُفَرِّقَانِ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَمِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ وَزَيْدٌ، وَعُمَرُ أَنَّ مَنْ لَا يَرِثُ لَا يَحْجُبُ مِثْلَ الْكَافِرِ وَالْمَمْلُوكِ وَالْقَاتِلِ عَمْدًا، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَحْجُبُ بِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ دُونَ أَنْ يُوَرِّثَهُمْ (أَعْنِي: بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَبِالْعَبِيدِ وَبِالْقَاتِلِينَ عَمْدًا)، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْحَجْبَ فِي مَعْنَى الْإِرْثِ وَأَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ. وَحَجَّةُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْحَجْبَ لَا يَرْتَفِعُ إِلَّا بِالْمَوْتِ.

.تَوَارُثُ الْمَفْقُودِينَ:

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الَّذِينَ يُفْقَدُونَ فِي حَرْبٍ، أَوْ غَرَقٍ، أَوْ هَدْمٍ وَلَا يُدْرَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ قَبْلَ صَاحِبِهِ كَيْفَ يَتَوَارَثُونَ إِذَا كَانُوا أَهْلَ مِيرَاثٍ؟
فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يُوَرَّثُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَأَنَّ مِيرَاثَهُمْ جَمِيعًا لِمَنْ بَقِيَ مِنْ قَرَابَتِهِمُ الْوَارِثِينَ أَوْ لِبَيْتِ الْمَالِ إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ قَرَابَةٌ تَرِثُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فِيمَا حَكَى عَنْهُ الطَّحَاوِيُّ. وَذَهَبَ عَلِيٌّ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَهْلُ الْكُوفَةِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا ذَكَرَ غَيْرُ الطَّحَاوِيِّ عَنْهُ وَجُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ إِلَى أَنَّهُمْ يَتَوَارَثُونَ، وَصِفَةُ تَوَارِيثِهِمْ عِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ يُوَرِّثُونَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبِهِ فِي أَصْلِ مَالِهِ دُونَ مَا وَرِثَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، (أَعْنِي: أَنَّهُ لَا يُضَمُّ إِلَى مَالِ الْمُوَرِّثِ مَا وَرِثَ مِنْ غَيْرِهِ)، فَيَتَوَارَثُونَ الْكُلَّ عَلَى أَنَّهُ مَالٌ وَاحِدٌ كَالْحَالِ فِي الَّذِينَ يُعْلَمُ تَقَدُّمُ مَوْتِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، مِثَالُ ذَلِكَ: زَوْجٌ وَزَوْجَةٌ تُوُفِّيَا فِي حَرْبٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ هَدْمٍ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَيُوَرَّثُ الزَّوْجُ مِنَ الْمَرْأَةِ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَتُوَرَّثُ الْمَرْأَةُ مِنَ الْأَلْفِ الَّتِي كَانَتْ بِيَدِ الزَّوْجِ دُونَ الْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي وَرِثَ مِنْهَا رُبُعَهَا وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ.

.مِيرَاثُ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ وَوَلَدِ الزِّنَى:

وَمِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي مِيرَاثِ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ وَوَلَدِ الزِّنَى. فَذَهَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إِلَى أَنَّ وَلَدَ الْمُلَاعَنَةِ يُوَرَّثُ كَمَا يُوَرَّثُ غَيْرُ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأُمِّهِ إِلَّا الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ إِخْوَةٌ لِأُمٍّ، فَيَكُونُ لَهُمُ الثُّلُثُ أَوْ تَكُونُ أُمُّهُ مَوْلَاةً فَيَكُونُ بَاقِي مَالِهَا لِمَوَالِيهَا، وَإِلَّا فَالْبَاقِي لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ عَلَى مَذْهَبِهِ يَجْعَلُ ذَوِي الْأَرْحَامِ أَوْلَى مِنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَأَيْضًا عَلَى قِيَاسِ مَنْ يَقُولُ بِالرَّدِّ يُرَدُّ عَلَى الْأُمِّ بَقِيَّةُ الْمَالِ. وَذَهَبَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ إِلَى أَنَّ عَصَبَتَهُ عَصَبَةُ أُمِّهِ (أَعْنِي: الَّذِي يَرِثُونَهَا). وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمْ لَا يَجْعَلُونَ عَصَبَتَهُ عَصَبَةَ أُمِّهِ إِلَّا مَعَ فَقْدِ الْأُمِّ وَكَانُوا يُنْزِلُونَ الْأُمَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ حَنْبَلٍ وَجَمَاعَةٌ. وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) فَقَالُوا: هَذِهِ أُمٌّ، وَكُلُّ أُمٍّ لَهَا الثُّلُثُ، فَهَذِهِ لَهَا الثُّلُثُ. وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أَنَّهُ أَلْحَقَ وَلَدَ الْمُلَاعَنَةِ بِأُمِّهِ»، وَحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «جَعَلَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِيرَاثَ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ لِأُمِّهِ وَلِوَرَثَتِهِ»، وَحَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمَرْأَةُ تَحُوزُ ثَلَاثَةَ أَمْوَالٍ: عَتِيقَها، وَلَقِيطَهَا وَوَلَدَهَا الَّذِي لَاعَنَتْ عَلَيْهِ»، وَحَدِيثِ مَكْحُولٍ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، خَرَّجَ جَمِيعَ ذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ. قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآثَارُ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا وَاجِبٌ، لِأَنَّهَا قَدْ خَصَّصَتْ عُمُومَ الْكِتَابِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ يُخَصَّصُ بِهَا الْكِتَابُ، وَلَعَلَّ الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ أَوْ لَمْ تَصِحَّ عِنْدَهُمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُثْمَانَ، وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَاشْتِهَارُهُ فِي الصَّحَابَةِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْآثَارِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ يُسْتَنْبَطُ بِالْقِيَاسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.النَّسَبُ الْمُوجِبُ لِلْمِيرَاثِ:

وَمِنْ مَسَائِلِ ثُبُوتِ النَّسَبِ الْمُوجِبِ لِلْمِيرَاثِ اخْتِلَافُهُمْ فِيمَنْ تَرَكَ ابْنَيْنِ وَأَقَرَّ أَحَدُهُمْ بِأَخٍ ثَالِثٍ وَأَنْكَرَ الثَّانِي، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ حَقَّهُ مِنَ الْمِيرَاثِ يَعْنُونَ الْمُقِرَّ، وَلَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ نَسَبُهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُقِرِّ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ شَيْئًا. وَاخْتَلَفَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْأَخِ الْمُقِرِّ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ عَلَيْهِ مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ لَوْ أَقَرَّ الْأَخُ الثَّانِي وَثَبَتَ النَّسَبُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ نِصْفَ مَا بِيَدِهِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ تَرَكَ ابْنًا وَاحِدًا فَأَقَرَّ بِأَخٍ لَهُ آخَرَ، (أَعْنِي: أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيَجِبُ الْمِيرَاثُ)، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَعَنْهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ النِّسَبُ وَلَا يَجِبُ الْمِيرَاثُ.
وَالثَّانِي: يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيَجِبُ الْمِيرَاثُ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ تَنَاظُرُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَسَائِلِ الطَّبْلُولِيَّةِ وَيَجْعَلُهَا مَسْأَلَةً عَامَّةً، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَحُوزُ الْمَالَ يَثْبُتُ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا أَخًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، (أَعْنِي: الْقَوْلَ الْغَيْرَ الْمَشْهُورِ): أَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ، وَحَيْثُ لَا يَثْبُتُ فَلَا مِيرَاثٌ، لِأَنَّ النَّسَبَ أَصْلٌ وَالْمِيرَاثَ فَرْعٌ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدِ الْأَصْلُ لَمْ يُوجَدِ الْفَرْعُ.
وَعُمْدَةُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ حَقٌّ مُتَعَدٍّ إِلَى الْأَخِ الْمُنْكِرِ، فَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ، وَأَمَّا حَظُّهُ مِنَ الْمِيرَاثِ الَّذِي بِيَدِ الْمُقِرِّ فَإِقْرَارُهُ فِيهِ عَامِلٌ، لِأَنَّهُ حَقٌّ أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ مِنَ الْحَاكِمِ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ النَّسَبِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ نَفْسِهِ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّهُ شَرِيكُهُ فِي الْمِيرَاثِ حَظَّهُ مِنْهُ.
وَأَمَّا عُمْدَةُ الشَّافِعِيَّةِ فِي إِثْبَاتِهِمُ النَّسَبَ بِإِقْرَارِ الْوَاحِدِ الَّذِي يَحُوزُ لَهُ الْمِيرَاثُ: فَالسَّمَاعُ وَالْقِيَاسُ. أَمَّا السَّمَاعُ: فَحَدِيثُ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ، قَالَتْ: «كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّي فَاقْبِضْهُ إِلَيْكَ، فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَقَالَ: ابْنُ أَخِي قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ: أَخِي، وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَاهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنُ أَخِي قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: احْتَجِبِي مِنْهُ، لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَتْ: فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ بِأَخِيهِ، وَأَثْبَتَ نَسَبَهُ بِإِقْرَارِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ وَارِثٌ مُنَازِعٌ لَهُ».
وَأَمَّا أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ فَقَدْ أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ لِخُرُوجِهِ عِنْدَهُمْ عَنِ الْأَصْلِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ فِي إِثْبَاتِ النِّسَبِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَأْوِيلَاتٌ، وَذَلِكَ أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَثْبَتَ نَسَبَهُ بِإِقْرَارِ أَخِيهِ بِهِ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَثْبُتَ نَسَبٌ إِلَّا بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ، وَلِذَلِكَ تَأَوَّلَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ تَأْوِيلَاتٍ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّهُ إِنَّمَا أَثْبَتَ نَسَبَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِ أَخِيهِ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ تِلْكَ الْأَمَةَ كَانَ يَطَؤُهَا زَمْعَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَأَنَّهَا كَانَتْ فِرَاشًا لَهُ، قَالُوا: وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ صِهْرَهُ، وَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ كَانَتْ زَوْجَتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَمْرُهَا، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ، وَلَا يَلِيقُ هَذَا التَّأْوِيلُ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ، لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي الْقَاضِي عِنْدَهُ بِعِلْمِهِ، وَيَلِيقُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ عَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ، (أَعْنِي: الَّذِي لَا يَثْبُتُ فِيهِ النَّسَبُ). وَالَّذِينَ قَالُوا بِهَذَا التَّأْوِيلِ قَالُوا: إِنَّمَا أَمَرَ سَوْدَةَ بِالْحَجْبَةِ احْتِيَاطًا لِشُبْهَةِ الشَّبَهِ، لَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَاجِبًا، وَقَالَ لِمَكَانِ هَذَا بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَحْجُبَ الْأُخْتَ عَنْ أَخِيهَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: أَمْرُهُ بِالِاحْتِجَابِ لِسَوْدَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُلْحِقْ نَسَبَهُ بِقَوْلِ عُتْبَةَ وَلَا بِعِلْمِهِ بِالْفِرَاشِ. وَافْتَرَقَ هَؤُلَاءِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «هُوَ لَكَ»، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّمَا أَرَادَ هُوَ عَبْدُكَ إِذَا كَانَ ابْنَ أَمَةِ أَبِيكَ، وَهَذَا غَيْرُ ظَاهِرٍ لِتَعْلِيلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمَهُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِه: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ»، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: إِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ» أَيْ: يَدُكَ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ مَا هُوَ يَدُ اللَّاقِطِ عَلَى اللُّقَطَةِ، وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ تَضْعُفُ لِتَعْلِيلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حُكْمَهُ بِأَنْ قَالَ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ».
وَأَمَّا الْمَعْنَى الَّذِي يَعْتَمِدُهُ الشَّافِعِيَّةُ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ، فَهُوَ أَنَّ إِقْرَارَ مَنْ يَحُوزُ الْمِيرَاثَ هُوَ إِقْرَارُ خِلَافَةٍ (أَيْ: إِقْرَارُ مَنْ حَازَ خِلَافَةَ الْمَيِّتِ)، وَعِنْدَ الْغَيْرِ أَنَّهُ إِقْرَارُ شَهَادَةٍ لَا إِقْرَارَ خِلَافَةٍ، يُرِيدُ أَنَّ الْإِقْرَارَ الَّذِي كَانَ لِلْمَيِّتِ انْتَقَلَ إِلَى هَذَا الَّذِي حَازَ مِيرَاثَهُ.

.هَلْ يُلْحَقُ أَوْلَادُ الزِّنَى بِآبَائِهِمْ:

وَاتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ أَوْلَادَ الزِّنَى لَا يُلْحَقُونَ بِآبَائِهِمْ إِلَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَشَذَّ قَوْمٌ فَقَالُوا: يَلْتَحِقُ وَلَدُ الزِّنَى فِي الْإِسْلَامِ (أَعْنِي: الَّذِي كَانَ عَنْ زِنًى فِي الْإِسْلَامِ).

.مَتَى يُلْحَقُ الْوَلَدُ بِالْفِرَاشِ:

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ لَا يُلْحَقُ بِالْفِرَاشِ فِي أَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، إِمَّا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ، وَإِمَّا مِنْ وَقْتِ الدُّخُولِ، وَأَنَّهُ يُلْحَقُ مِنْ وَقْتِ الدُّخُولِ إِلَى أَقْصَرِ زَمَانِ الْحَمْلِ، أَوْ إِنْ كَانَ قَدْ فَارَقَهَا وَاعْتَزَلَهَا.

.زَمَانُ الْحَمْلِ الَّذِي يُلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ:

وَاخْتَلَفُوا فِي أَطْوَلِ زَمَانِ الْحَمْلِ الَّذِي يُلْحِقُ بِهِ الْوَالِدُ الْوَلَدَ، فَقَالَ مَالِكٌ: خَمْسُ سِنِينَ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: سَبْعٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَرْبَعُ سِنِينَ، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: سَنَتَانِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ: سَنَةٌ، وَقَالَ دَاوُدُ: سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَرْجُوعٌ فِيهَا إِلَى الْعَادَةِ وَالتَّجْرِبَةِ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الحَكَمِ وَالظَّاهِرِيَّةِ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْمُعْتَادِ، وَالْحُكْمُ إِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِالْمُعْتَادِ لَا بِالنَّادِرِ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِيلًا. وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا أَوْ دَخَلَ بِهَا بَعْدَ الْوَقْتِ وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ لَا مِنْ وَقْتِ الدُّخُولِ أَنَّهُ لَا يُلْحَقُ بِهِ إِلَّا إِذَا أَتَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ وَقْتِ الدُّخُولِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ فِرَاشٌ لَهُ وَيَلْحَقُهُ الْوَلَدُ. وَعُمْدَةُ مَالِكٍ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِفِرَاشٍ إِلَّا بِإِمْكَانِ الْوَطْءِ وَهُوَ مَعَ الدُّخُولِ. وَعُمْدَةُ أَبِي حَنِيفَةَ عُمُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» وَكَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ هَذَا تَعَبُّدٌ بِمَنْزِلَةِ تَغْلِيبِ الْوَطْءِ الْحَلَالِ عَلَى الْوَطْءِ الْحَرَامِ فِي إِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِالْوَطْءِ الْحَلَالِ.

.هَلْ يَثْبُتُ النَّسَبُ بِالْقَافَةِ:

وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي إِثْبَاتِ النِّسَبِ بِالْقَافَةِ حكم، وَذَلِكَ عِنْدَمَا يَطَأُ رَجُلَانِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ بِمِلْكِ يَمِينٍ أَوْ بِنِكَاحٍ، وَيُتَصَوَّرُ أَيْضًا الْحُكْمُ بِالْقَافَةِ فِي اللَّقِيطِ الَّذِي يَدَّعِيهِ رَجُلَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ. وَالْقَافَةُ تعريفها عِنْدَ الْعَرَبِ: هُمْ قَوْمٌ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مَعْرِفَةٌ بِفُصُولِ تَشَابُهِ أَشْخَاصِ النَّاسِ، فَقَالَ بِالْقَافَةِ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَأَبَى الحُكْمَ بِالْقَافَةِ، الْكُوفِيُّونَ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَالْحُكْمُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى رَجُلَانِ وَلَدًا كَانَ الْوَلَدُ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا فِرَاشٌ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لَقِيطًا، أَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ الْوَاحِدَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِرَاشًا مِثْلَ الْأَمَةِ أَوِ الْحُرَّةِ يَطَؤُهَا رَجُلَانِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنَ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ لِلِابْنِ الْوَاحِدِ أَبَوَانِ فَقَطْ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْنًا لِثَلَاثَةٍ إِنِ ادَّعَوْهُ، وَهَذَا كُلُّهُ تَخْلِيطٌ وَإِبْطَالٌ لِلْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ.
وَعُمْدَةُ اسْتِدْلَالِ مَنْ قَالَ بِالْقَافَةِ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَلِيطُ أَوْلَادَ الْجَاهِلِيَّةِ بِمَنِ اسْتَلَاطَهُمْ (أَيْ: بِمَنِ ادَّعَاهُمْ فِي الْإِسْلَامِ)، فَأَتَى رَجُلَانِ كِلَاهُمَا يَدَّعِي وَلَدَ امْرَأَةٍ، فَدَعَا قَائِفًا فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ الْقَائِفُ: لَقَدِ اشْتَرَكَا فِيهِ، فَضَرَبَهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ، ثُمَّ دَعَا الْمَرْأَةَ، فَقَالَ: أَخْبَرِينِي بِخَبَرِكِ، فَقَالَتْ: كَانَ هَذَا - لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ - يَأْتِي فِي إِبِلٍ لِأَهْلِهَا فَلَا يُفَارِقُهَا حَتَّى يَظُنَّ وَنَظُنُّ أَنَّهُ قَدِ اسْتَمَرَّ بِهَا حَمْلٌ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهَا فَأُهْرِيقَتْ عَلَيْهِ دَمًا، ثُمَّ خَلَفَ هَذَا عَلَيْهَا (تَعْنِي: الْآخَرَ)، فَلَا أَدْرِي أَيُّهُمَا هُوَ، فَكَبَّرَ الْقَائِفُ، فَقَالَ عُمَرُ لِلْغُلَامِ: وَالِ أَيَّهُمَا شِئْتَ. قَالُوا: فَقَضَاءُ عُمَرَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْقَافَةِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ هُوَ كَالْإِجْمَاعِ. وَهَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ مَالِكٍ إِذَا قَضَى الْقَافَةُ بِالِاشْتِرَاكِ أَنْ يُؤَخَّرَ الصَّبِيُّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَيُقَالُ لَهُ: وَالِ أَيَّهُمَا شِئْتَ، وَلَا يَلْحَقُ وَاحِدٌ بِاثْنَيْنِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يَكُونُ ابْنًا لَهُمَا إِذَا زَعَمَ الْقَائِفُ أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِيهِ. وَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّهُ لَيْسَ يَكُونُ ابْنًا لِلِاثْنَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى}. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْقَافَةِ أَيْضًا بِحَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ مُجَزِّزٌ الْمُدْلِجِيُّ لِزَيْدٍ وَأُسَامَةَ، وَرَأَى أَقْدَامَهُمَا، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ»، قَالُوا: وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ.
وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَقَالُوا: الْأَصْلُ أَنْ لَا يُحْكَمَ لِأَحَدِ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِي الْوَلَدِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَالِكَ فِرَاشٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» فَإِذَا عُدِمَ الْفِرَاشُ أَوِ اشْتَرَكَا الْفِرَاشَ كَانَ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا، وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ بُنُوَّةً شَرْعِيَّةً لَا طَبِيعِيَّةً، فَإِنَّهُ لَيْسَ يَلْزَمُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ابْنَ وَاحِدٍ عَنْ أَبَوَيْنِ بِالْعَقْلِ أَنْ لَا يَجُوزَ وُقُوعُ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ. وَرُوِيَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ عَنْ عُمَرَ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَلِيٍّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُقْبَلُ فِي الْقَافَةِ إِلَّا رَجُلَانِ. وَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُ قَائِفٍ وَاحِدٍ. وَالْقَافَةُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْ مَالِكٍ إِنَّمَا يَقْضِي بِهَا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ فَقَطْ لَا فِي النِّكَاحِ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ مِثْلَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِي هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ مُسْنَدٌ أَخَذَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ، رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: «كَانَ عَلِيٌّ بِالْيَمَنِ فَأَتَى بِامْرَأَةٍ وَطِئَهَا ثَلَاثَةُ أُنَاسٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُقِرَّ لِصَاحِبِهِ بِالْوَلَدِ فَأَبَى، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ وَقَضَى بِالْوَلَدِ لِلَّذِي أَصَابَتْهُ الْقُرْعَةُ وَجَعَلَ عَلَيْهِ ثُلُثَيِ الدِّيَةِ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْجَبَهُ، وَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ»، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ إِنْفَاذُ الْحُكْمِ بِالْقَافَةِ، وَإِلْحَاقُ الْوَلَدِ بِالْقُرْعَةِ.

.مِيرَاثُ الْقَاتِلِ:

وَاخْتَلَفُوا فِي مِيرَاثِ الْقَاتِلِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
فَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ أَصْلًا مَنْ قَتَلَهُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: يَرِثُ الْقَاتِلُ وَهُمُ الْأَقَلُّ.
وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ، فَقَالُوا: لَا يَرِثُ فِي الْعَمْدِ شَيْئًا، وَيَرِثُ فِي الْخَطَأِ إِلَّا مِنَ الدِّيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ.
وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي الْعَمْدِ قَتْلٌ بِأَمْرٍ وَاجِبٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاجِبٍ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مَنْ لَهُ إِقَامَةُ الْحُدُودِ، وَبِالْجُمْلَةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُتَّهَمُ أَوْ لَا يُتَّهَمُ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ مُعَارَضَةُ أَصْلِ الشَّرْعِ فِي هَذَا الْمَعْنَى لِلنَّظَرِ الْمَصْلَحِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّظَرَ الْمَصْلَحِيَّ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَرِثَ لِئَلَّا يَتَذَرَّعَ النَّاسُ مِنَ الْمَوَارِيثِ إِلَى الْقَتْلِ وَاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ، وَالتَّعَبُّدُ يُوجِبُ أَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا قَصَدَ لَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الشَّارِعُ (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) كَمَا تَقُولُ الظَّاهِرِيَّةُ.

.هَلْ يَرِثُ الْكَافِرُ إِذَا أَسْلَمَ بَعْدَ مَوْتِ مُوَرِّثِهِ الْمُسْلِمِ وَقَبْلَ قَسْمِ الْمِيرَاثِ:

وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَارِثِ الَّذِي لَيْسَ بِمُسْلِمٍ يُسْلِمُ بَعْدَ مَوْتِ مُوَرِّثِهِ الْمُسْلِمِ وَقَبْلَ قَسْمِ الْمِيرَاثِ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ مُوَرِّثُهُ عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ وَقْتُ الْمَوْتِ، فَإِنْ كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَارِثُهُ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ لَمْ يَرِثْهُ أَصْلًا سَوَاءٌ أَسْلَمَ قَبْلَ الْمِيرَاثِ أَوْ بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ مُوَرِّثُهُ عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَكَانَ الْوَارِثُ يَوْمَ مَاتَ غَيْرَ مُسْلِمٍ وَرِثَهُ ضَرُورَةً سَوَاءٌ كَانَ إِسْلَامُهُ قَبْلَ الْقَسْمِ أَوْ بَعْدَهُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَجَمَاعَةٌ: الْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ يَوْمُ الْقَسْمِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَعُمْدَةُ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا دَارٍ أَوْ أَرْضٍ قُسِّمَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهِيَ عَلَى قَسْمِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَيُّمَا دَارٍ أَوْ أَرْضٍ أَدْرَكَهَا الْإِسْلَامُ وَلَمْ تُقْسَمْ فَهِيَ عَلَى قَسْمِ الْإِسْلَامِ». فَمَنِ اعْتَبَرَ وَقْتَ الْقِسْمَةِ حَكَمَ لِلْمَقْسُومِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَمَنِ اعْتَبَرَ وُجُوبَ الْقِسْمَةِ حَكَمَ فِي وَقْتِ الْمَوْتِ لِلْمَقْسُومِ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءٍ «أَنَّ رَجُلًا أَسْلَمَ عَلَى مِيرَاثٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصِيبَهُ». وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَهُمْ فِيمَنْ أُعْتِقَ مِنَ الْوَرَثَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ الْقَسْمِ. فَهَذِهِ هِيَ الْمَسَائِلُ الْمَشْهُورَةُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْكِتَابِ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَمَّا كَانَ الْمِيرَاثُ إِنَّمَا يَكُونُ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ: إِمَّا بِنَسَبٍ، أَوْ صِهْرٍ، أَوْ وَلَاءٍ، وَكَانَ قَدْ قِيلَ فِي الَّذِي يَكُونُ بِالنَّسَبِ وَالصِّهْرِ، فَيَجِبُ أَنْ نَذْكُرَ هَاهُنَا الْوَلَاءَ، وَلِمَنْ يَجِبُ، وَمَنْ يَجِبُ فِيهِ مِمَّنْ لَا يَجِبُ، وَمَا أَحْكَامُهُ؟

.بَابٌ فِي الْوَلَاءِ:

فَأَمَّا مَنْ يَجِبُ لَهُ الْوَلَاءُ، فَفِيهِ مَسَائِلُ مَشْهُورَةٌ تَجْرِي مَجْرَى الْأُصُولِ لِهَذَا الْبَابِ.

.الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: [وَلَاءُ الْمُعْتِقِ]:

أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ وَلَاءَهُ لَهُ وَأَنَّهُ يَرِثُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ، وَأَنَّهُ عَصَبَةٌ لَهُ إِذَا كَانَ هُنَالِكَ وَرَثَةٌ لَا يُحِيطُونَ بِالْمَالِ. فَأَمَّا كَوْنُ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ عَنْ نَفْسِهِ، فَلِمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ: «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»، وَاخْتَلَفُوا إِذَا أُعْتِقَ عَبْدٌ عَنْ غَيْرِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: الْوَلَاءُ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ لَا الَّذِي بَاشَرَ الْعِتْقَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: إِنْ أَعْتَقَهُ عَنْ عِلْمِ الْمُعْتَقِ عَنْهُ، فَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ عَنْ غَيْرِ عِلْمِهِ، فَالْوَلَاءُ لِلْمُبَاشِرِ لِلْعِتْقِ. وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ»، قَالُوا: فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْتَحِقَ نَسَبٌ بِالْحُرِّ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ. وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى، فَلِأَنَّ عِتْقَهُ حُرِّيَّةٌ وَقَعَتْ فِي مِلْكِ الْمُعْتِقِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُ، أَصْلُهُ إِذَ أَعْتَقَهُ مِنْ نَفْسِهِ. وَعُمْدَةُ مَالِكٍ أَنَّهُ إِذَا أَعْتَقَهُ عَنْهُ فَقَدْ مَلَّكَهُ إِيَّاهُ، فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ، وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَذِنَ لَهُ الْمُعْتَقُ عَنْهُ كَانَ وَلَاؤُهُ لَهُ لَا لِلْمُبَاشِرِ. وَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّهُ مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْوَلَاءَ يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَعِنْدَهُمْ يَكُونُ لِلْمُعْتِقِ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: [إِذَا أَسْلَمَ رَجُلٌ عَلَى يَدَيْهِ هَلْ يَكُونُ وَلَاؤُهُ لَهُ]:

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ رَجُلٌ هَلْ يَكُونُ وَلَاؤُهُ لَهُ؟
فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَدَاوُدُ وَجَمَاعَةٌ: لَا وَلَاءَ لَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: لَهُ وَلَاؤُهُ إِذَا وَالَاهُ، وَذَلِكَ أَنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُوَالِيَ رَجُلًا آخَرَ فَيَرِثَهُ وَيَعْقِلَ عَنْهُ، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ مِنْ وَلَائِهِ إِلَى وَلَاءِ غَيْرِهِ مَا لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ عَلَى يَدَيْهِ يَكُونُ لَهُ وَلَاؤُهُ. فَعُمْدَةُ الطَّائِفَةِ الْأُولَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» وَإِنَّمَا هَذِهِ هِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْحَاصِرَةَ، وَكَذَلِكَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ هِيَ عِنْدَهُمْ لِلْحَصْرِ، وَمَعْنَى الْحَصْرِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ خَاصًّا بِالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ (أَعْنِي: أَنْ لَا يَكُونَ وَلَاءٌ بِحَسَبِ مَفْهُومِ هَذَا الْقَوْلِ إِلَّا لِلْمُعْتِقِ فَقَطِ الْمُبَاشِرِ). وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ فِي إِثْبَاتِ الْوَلَاءِ بِالْمُوَالَاةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: الْوَلَاءُ يَكُونُ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ فَقَطْ حَدِيثُ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُشْرِكِ يُسْلِمُ عَلَى يَدِ مُسْلِمٍ؟
فَقَالَ هُوَ أَحَقُّ النَّاسِ وَأَوْلَاهُمْ بِحَيَاتِهِ وَمَمَاتِهِ»
وَقَضَى بِهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَلَاءِ وَلَا هِبَتُهُ لِثُبُوتِ نَهْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا وَلَاءَ السَّائِبَةِ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: [وَلَاءُ السَّائِبَةِ]:

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ إِذَا قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ أَنْتِ سَائِبَةٌ. فَقَالَ مَالِكٌ: وَلَاؤُهُ وَعَقْلُهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَعْتَقَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَعْنَى الْعِتْقِ فَقَطْ، فَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: وَلَاؤُهُ لِلْمُعْتِقِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَدَاوُدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَهُ أَنْ يَجْعَلَ وَلَاءَهُ حَيْثُ شَاءَ، وَإِنْ لَمْ يُوَالِ أَحَدًا كَانَ وَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ، وَالشَّعْبِيُّ يَقُولَانِ: لَا بَأْسَ بِبَيْعِ وَلَاءِ السَّائِبَةِ وَهِبَتِهِ. وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ هِيَ الْحُجَجُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَأَمَّا مَنْ أَجَازَ بَيْعَهُ فَلَا أَعْرِفُ لَهُ حُجَّةً فِي هَذَا الْوَقْتِ.

.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: [وَلَاءُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ إِذَا أَعْتَقَهُ النَّصْرَانِيُّ]:

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَلَاءِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ إِذَا أَعْتَقَهُ النَّصْرَانِيُّ قَبْلَ أَنْ يُبَاعَ لِمَنْ يَكُونُ؟
فَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ: وَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ أَسْلَمَ مَوْلَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ وَلَاؤُهُ وَلَا مِيرَاثُهُ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: وَلَاؤُهُ لِسَيِّدِهِ، فَإِنْ أَسْلَمَ كَانَ لَهُ مِيرَاثُهُ. وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ، وَأَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ الْأَبُ بَعْدَ إِسْلَامِ الِابْنِ أَنَّهُ يَرِثُهُ، فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ.
وَأَمَّا عُمْدَةُ مَالِكٍ فَعُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ لَهُ الْوَلَاءُ يَوْمَ الْعِتْقِ لَمْ يَجِبْ لَهُ فِيمَا بَعْدُ.
وَأَمَّا إِذَا وَجَبَ لَهُ يَوْمَ الْعِتْقِ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِهِ فَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ إِذَا ارْتَفَعَ ذَلِكَ الْمَانِعُ أَنَّهُ يَعُودُ الْوَلَاءُ لَهُ. وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا أَنَّهُ إِذَا أَعْتَقَ النَّصْرَانِيُّ الذِّمِّيُّ عَبْدَهُ النَّصْرَانِيَّ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَسْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ الْوَلَاءَ يَرْتَفِعُ، فَإِنْ أَسْلَمَ الْمَوْلَى عَادَ إِلَيْهِ. وَإِنْ كَانُوا اخْتَلَفُوا فِي الْحَرْبِيِّ يُعْتِقُ عَبْدَهُ وَهُوَ عَلَى دِينِهِ، ثُمَّ يَخْرُجَانِ إِلَيْنَا مُسْلِمَيْنِ، فَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ مَوْلَاهُ يَرِثُهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا وَلَاءَ بَيْنَهُمَا، وَلِلْعَبْدِ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْوَلَاءِ وَالتَّحَالُفِ. وَخَالَفَ أَشْهَبُ مَالِكًا فَقَالَ: إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْمَوْلَى لَمْ يَعُدْ إِلَى الْمَوْلَى وَلَاؤُهُ أَبَدًا. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَعُودُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ، لِأَنَّ مَالِكًا يَعْتَبِرُ وَقْتَ الْعِتْقِ. وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ كُلُّهَا هِيَ مَفْرُوضَةٌ فِي الْقَوْلِ لَا تَقَعُ بَعْدُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ دِينِ النَّصَارَى أَنْ يَسْتَرِقَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا مِنْ دِينِ الْيَهُودِ فِيمَا يَعْتَقِدُونَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنْ مِلَلِهِمْ.

.الْمَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: [وَلَاءُ النِّسَاءِ حكم]:

أَجْمَعَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ لَيْسَ لَهُنَّ مَدْخَلٌ فِي وِرَاثَةِ الْوَلَاءِ إِلَّا مَنْ بَاشَرْنَ عِتْقَهُ بِأَنْفُسِهِنَّ أَوْ مَا جَرَّ إِلَيْهِنَّ مَنْ بَاشَرْنَ عِتْقَهُ، إِمَّا بِوَلَاءٍ أَوْ بِنَسَبٍ، مِثْلَ مُعْتَقِ مُعْتَقِهَا أَوِ ابْنِ مُعْتَقِهَا، وَأَنَّهُنَّ لَا يَرِثْنَ مُعْتَقَ مَنْ يَرِثْنَهُ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ شُرَيْحٍ. وَعُمْدَتُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهَا وَلَاءُ مَا أَعْتَقَتْ بِنَفْسِهَا كَانَ لَهَا وَلَاءُ مَا أَعْتَقَهُ مُوَرِّثُهَا قِيَاسًا عَلَى الرَّجُلِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ بِقِيَاسِ الْمَعْنَى، وَهُوَ أَرْفَعُ مَرَاتِبِ الْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُوهِنُهُ الشُّذُوذُ. وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْوَلَاءَ إِنَّمَا وَجَبَ لِلنِّعْمَةِ الَّتِي كَانَتْ لِلْمُعْتِقِ عَلَى الْمُعْتَقِ، وَهَذِهِ النِّعْمَةُ إِنَّمَا تُوجَدُ فِيمَنْ بَاشَرَ الْعِتْقَ، أَوْ كَانَ مِنْ سَبَبٍ قَوِيٍّ مِنْ أَسْبَابِهِ، وَهُمُ الْعَصَبَةُ. قَالَ الْقَاضِي: وَإِذْ قَدْ تَقَرَّرَ مَنْ لَهُ وَلَاءٌ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ وَلَاءٌ، فَبَقِيَ النَّظَرُ فِي تَرْتِيبِ أَهْلِ الْوَلَاءِ فِي الْوَلَاءِ.

.[تَرْتِيبُ أَهْلِ الْوَلَاءِ فِي الْوَلَاءِ]:

فَمِنْ أَشْهَرِ مَسَائِلِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ الْمَسْأَلَةُ التِي يَعْرِفُونَهَا بِالْوَلَاءِ لِلْكِبَرِ، مِثَالُ ذَلِكَ: رَجُلٌ أَعْتَقَ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ أَخَوَيْنِ أَوِ ابْنَيْنِ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْأَخَوَيْنِ وَتَرَكَ ابْنًا، أَوْ أَحَدُ الِابْنَيْنِ. فَقَالَ الْجُمْهُورُ: فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ حَظَّ الْأَخِ الْمَيِّتِ مِنَ الْوَلَاءِ لَا يَرِثُهُ عَنْهُ ابْنُهُ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى أَخِيهِ، لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِهِ مِنِ ابْنِهِ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ، لِأَنَّ الْحَجْبَ فِي الْمِيرَاثِ يُعْتَبَرُ بِالْقُرْبِ مِنَ الْمَيِّتِ، وَهُنَا بِالْقُرْبِ مِنَ الْمُبَاشِرِ الْعِتْقَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَلِيٍّ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَقَالَ شُرَيْحٌ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ: حَقُّ الْأَخِ الْمَيِّتِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِبَنِيهِ. وَعُمْدَةُ هَؤُلَاءِ تَشْبِيهُ الْوَلَاءِ بِالْمِيرَاثِ. وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْوَلَاءَ نَسَبٌ مَبْدَؤُهُ مِنَ الْمُبَاشِرِ.